فصل: أولا: التقوى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كتاب العلم **


 الفصل الثاني

 الأسباب المعينة على طلب العلم

الأسباب المعينة على طلب العلم كثيرة، نذكر منها‏:‏

 أولا‏:‏ التقوى

وهي وصية الله للأولين والآخرين من عباده، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ من الآية131‏]‏ ‏.‏

وهي أيضًا وصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته، فعن أبي إمامة صدي بن عجلان الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب في حجة الوداع فقال‏:‏ اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم‏)‏ ‏[‏أخرجه الترمذي، كتاب الجمعة‏.‏‏]‏ وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا بعث أميرًا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا‏.‏ ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها في خطبهم ومكاتباتهم ووصاياهم عند الوفاة؛ كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى ابنه عبدالله‏:‏ أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله ـ عز وجل ـ فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه؛ ومن شكره زاده - وأوصى علي - رضي الله عنه ـ رجلًا فقال‏:‏ ‏(‏أوصيك بتقوى عز وجل الذي لا بد لك من لقائه ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة‏)‏، وكتب أحد الصالحين إلى أخ له في الله تعالى‏:‏ ‏(‏أما بعد ‏.‏‏.‏‏.‏ أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك‏.‏ وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه لا تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر وجلك والسلام‏)‏‏.‏

ومعنى التقوى‏:‏ أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية تقيه منه‏.‏ وتقوى العبد ربه‏:‏ أن يجعل بينه وبين من يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تقيه من ذلك، بفعل طاعته واجتناب معاصيه‏.‏

واعلم أن التقوى أحيانًا تقترن بالبر، فيقال‏:‏ بر وتقوى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ الآية2‏]‏

وتارة تذكر وحدها فإن قرنت بالبر صار البر فعل الأمر، والتقوى ترك النواهي‏.‏

وإذا أفردت صارت شاملة نعم فعل الأمر واجتناب النواهي، وقد ذكر الله في كتابه أن الجنة أعدت للمتقين، فأهل التقوى هم أهل الجنة - جعلنا الله وإياكم منهم - ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله - عز وجل - امتثالًا لأمره، وطلبًا لثوابه، والنجاة من عقابه‏.‏ قال الله - عز وجل -‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم‏}‏ ‏[‏الأنفال الآية‏:‏29‏]‏ ‏.‏

وهذه الآية فيها ثلاث فوائد مهمة‏:‏

الفائدة الأولى‏:‏ ‏{‏يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانا‏}‏ ‏[‏الأنفال الآية‏:‏29‏]‏ أي يجعل لكم ما تٌفرقون به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وهذا يدخل فيه العلم بحيث يفتح الله على الإنسان من العلوم ما لا يفتح لغيره، فإن التقوى يحصل بها زيادة الهدى، وزيادة العلم، وزيادة الحفظ، ولهذا يذكر عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال‏:‏

شكــوت إلى وكيـع سـوء حفظــي ** فأرشــدني إلى تـــرك المعــــــاصي

وقـــال اعلـم بأن العلـــم نــور ** ونــور الله لا يــؤتـــاه عاصـــي

ولا شك أن الإنسان كلما ازداد علمًا ازداد معرفة وفرقانًا بين الحق والباطل، والضار والنافع، وكذلك يدخل فيه ما يفتح الله على الإنسان من الفهم؛ لأن التقوى سبب لقوى الفهم، وقوة يحصل بها زيادة العلم، فإنك ترى الرجلين يحفظان آية من كتاب الله يستطيع أحدهما أن يستخرج منها ثلاثة أحكام، ويستطيع الآخر أن يستخرج أكثر من هذا بحسب ما أتاه الله من الفهم‏.‏

الفتوى سبب لزيادة الفهم، ويدخل في ذلك أيضًا الفراسة أن الله يعطي المتقي فراسة يميز بها حتى بين الناس‏.‏

فبمجرد ما يرى الإنسان يعرف أنه كاذب أو صادق، أو بر أو فاجر حتى أنه ربما يحكم على الشخص وهو لم يعاشره، ولم يعرف عنه شيئًا بسبب ما أعطاه الله من الفراسة‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏ ‏{‏وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال الآية‏:‏ 29‏]‏‏.‏ ‏[‏الأنفال الآية‏:‏ 29‏]‏ وتكفير السيئات يكون بالأعمال الصالحة، فإن الأعمال الصالحة تكفر الأعمال السيئة كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر‏)‏ ‏[‏أخرجه مسلم، كتاب الطهارة باب‏:‏ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات

لما بينهن ما اجتنبت الكبائر‏.‏‏]‏‏.‏

وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما‏)‏ ‏[‏أخرجه البخاري، كتاب العمرة، ومسلم، كتاب الحج‏.‏

‏]‏ ‏.‏ فالكفارة تكون بالإعمال الصالحة، وهذا يعني أن الإنسان إذا اتقي الله سهل له الأعمال الصالحة التي يكفّر الله بها عنه‏.‏

الفائدة الثالثة‏:‏ ‏{‏ويغفر لكم‏}‏ بأن ييسر كم للاستغفار والتوبة، فإن هذا من نعمة الله على العبد أن ييسر للاستغفار والتوبة‏.‏

 ثانيًا‏:‏ المثابرة والاستمرار على طلب العلم

يتعين على طالب العلم أن يبذل الجهد في إدراك العلم والصبر عليه وأن يحتفظ به بعد تحصيله، فإن العلم لا ينال براحة الجسم، فيسلك المتعلم جميع الطرق الموصلة إلى العلم وهو مثاب على ذلك؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له طريقا إلى الجنة‏)‏ ‏[‏أخرجه مسلم، كتاب الدعوات، باب‏:‏ فضل الاجتماع على تلاوة القرآن‏.‏‏]‏‏.‏ فليثابر طالب العلم ويجتهد ويسهر الليالي ويدع عنه كل ما يصرفه أو يشغله عن طلب العلم‏.‏

وللسلف الصالح قضايا مشهورة في المثابرة على طلب العلم حتى أنه يروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سئل بما أدركت العلم‏؟‏ قال‏:‏ بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدون غير مئول وعنه أيضا ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏ إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه - وهو قائل - فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح على من التراب، فيخرج فيقول‏:‏ يا ابن عم رسول الله ما جاء بك‏؟‏ ألا أرسلت إلي فآتيك‏؟‏ فأقول‏:‏ أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏)‏ ‏.‏ فابن عباس ـ رضي الله عنه ـ تواضع للعلم فرفعه الله به‏.‏

وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يثابر المثابرة الكبيرة، ويروى أيضًا عن الشافعي - رحمه الله - أنه استضافه الإمام أحمد ذات ليلة فقدم له العشاء، فأكل الشافعي ثم تفرق الرجلان إلى منامهما، فبقي الشافعي - رحمه الله - يفكر في استنباط أحكام من حديث، وهو قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏يا أبا عمير ما فعل النغير‏)‏ ‏[‏أخرجه البخاري، كتاب الأدب‏:‏ الانبساط إلى الناس‏.‏‏]‏ أبا عمير كان معه طائر صغير يسمي النغير، فمات هذا الطائر فحزن عليه الصبي، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يداعب الصبيان ويكلم كل إنسان بما يليق به، فظل طول الليل يستنبط من هذا الحديث ويقال إنه استنبط منه أكثر من ألف فائدة، ولعله إذا استنبط فائدة جز إليها حديث آخر، وهكذا حتى تتم فلما أذن الفجر قام الشافعي - رحمه الله - ولم يتوضأ ثم انصرف إلى بيته، وكان الإمام أحمد يثني عليه عند أهله فقالوا له‏:‏

يا أبا عبد الله كيف تثني على هذا الرجل الذي أكل فشرب ونام ولم يقم، وصلى الفجر بدون وضوء‏؟‏ فسأل الإمام الشافعي فقال‏:‏ ‏(‏أما كوني أكلت حتى أفرغت الإناء فذلك لأني ما وجدت طعامًا أطيب من طعام الإمام أحمد فأردت أن أملأ بطني منه، وأما كوني لم أقسم لصلاة الليل فإن العلم أفضل من قيام الليل، وقد كنت أفكر في هذا الحديث، وأما كوني لم أتوضأ لصلاة الفجر فكنت على وضوء من صلاة العشاء‏)‏ ولا يحب أن يكلفهم بماء الوضوء‏.‏

أقول على كل حال، إن المثابرة في طلب العلم أمر مهم، فلننظر في حاضرنا الآن هل نحن على هذه المثابرة‏؟‏ لا‏.‏ أما الذين يدرسون دراسة نظامية إذا انصرفوا من الدراسة ربما يتلهون بأشياء لا تعين على الدرس، وإني أضرب مثلا وأحب ألا يكون وإلا يوجد له نظير، أحد الطلبة في بعض المواد أجاب إجابة سيئة، فقال المدرس‏:‏ لماذا‏؟‏ فقال‏:‏ لأني قد أيست من فهم هذه المادة، فأنا لا أدرسها ولكن أريد أن أكون حاملًا لها، كيف اليأس‏؟‏ وهذا خطأ عظيم، يجب أن نثابر حتى نصل إلى الغاية‏.‏

وقد حدثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - أنه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن، وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعامًا لها وتصعد به إلى الجدار وكما صعدت سقطت، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة وصعدت الجدار، فقال الكسائي‏:‏ هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فاثبر حتى صار إمامًا في النحو‏.‏

ولهذا ينبغي لنا أيها الطلبة أن نثابر ولا نيأس فإن اليأس معناه سد باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم بل نتفاءل وأن نعد أنفسنا خيرًا‏.‏